كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}.. الخ الآية.
وأخرجه الدارقطني أيضًا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس كتب عليكم الحج. فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، ثم عاد فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال:» ومن القائل؟ «قالوا: فلان. قال: والذي نفسي بيده لو قلت: نعم. لوجبت. ولو وجبت ما أطقتموها. ولو لم تطيقوها لكفرتم» فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}.
وفي حديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «... فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا» فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: «النار» فقام عبدالله بن حذافة فقال: «من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة». قال ابن عبد البر: عبدالله بن حذافة أسلم قديمًا، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا، وكانت فيه دعابة! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قال: من أبي يا رسول الله؟ قال «أبوك حذافة» قالت أمه: ما سمعت بابن أعق منك. أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟! فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به.
وفي رواية لابن جرير- بسنده- عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر. فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ قال: «في النار» فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: «أبوك حذافة» فقام عمر بن الخطاب، فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا وبالقرآن إمامًا. إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك، والله أعلمُ من آباؤنا. قال: فسكن غضبه ونزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم...} الآية.
وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وهو قول سعيد بن جبير.
وقال: ألا ترى أن بعده: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}؟
ومجموعة هذه الروايات وغيرها تعطي صورة عن نوع هذه الأسئلة التي نهى الله الذين آمنوا أن يسألوها..
لقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب، ولا ليشرع شريعة فحسب. ولكن كذلك ليربي أمة، وينشئ مجتمعًا، وليكوّن الأفراد وينشئهم على منهج عقلي وخلقي من صنعه.. وهو هنا يعلمهم أدب السؤال، وحدود البحث، ومنهج المعرفة.. وما دام الله سبحانه هو الذي ينزل هذه الشريعة، ويخبر بالغيب، فمن الأدب أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة أو إجمالها؛ وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره. وأن يقفوا هم في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها العليم الخبير. لا ليشددوا على أنفسهم بتنصيص النصوص، والجري وراء الاحتمالات والفروض، كذلك لا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله منه وما هم ببالغيه. والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم، فهو يشرع لهم في حدود طاقتهم، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم. وهناك أمور تركها الله مجملة أو مجهلة؛ ولا ضير على الناس في تركها هكذا كما أرادها الله. ولكن السؤال- في عهد النبوة وفترة تنزل القرآن- قد يجعل الإجابة عنها متعينة فتسوء بعضهم، وتشق عليهم كلهم وعلى من يجيء بعدهم.
لذلك نهى الله الذين آمنوا أن يسألوا عن أشياء يسوؤهم الكشف عنها؛ وأنذرهم بأنهم سيجابون عنها إذا سألوا في فترة الوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وستترتب عليهم تكاليف عفا الله عنها فتركها ولم يفرضها:
{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها}.
أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها وترك فرضها أو تفصيلها ليكون في الإجمال سعة.. كأمره بالحج مثلًا.. أو تركه ذكرها أصلًا..
ثم ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم- من أهل الكتاب- ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالسؤال عن التكاليف والأحكام. فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها. ولو سكتوا وأخذوا الأمور باليسر الذي شاءه الله لعبادة ما شدد عليهم، وما احتملوا تبعة التقصير والكفران.
ولقد رأينا في سورة البقرة كيف أن بني إسرائيل حينما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة، بلا شروط ولا قيود، كانت تجزيهم فيها بقرة أية بقرة.. أخذوا يسألون عن أوصافها ويدققون في تفصيلات هذه الأوصاف. وفي كل مرة كان يشدد عليهم. ولو تركوا السؤال ليسروا على أنفسهم.
وكذلك كان شأنهم في السبت الذي طلبوه ثم لم يطيقوه!..
ولقد كان هذا شأنهم دائمًا حتى حرم الله عليهم أشياء كثيرة تربية لهم وعقوبة!
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ذروني ما تركتكم. فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم».
وفي الصحيح أيضًا: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها. وسكت عن أشياء رحمة بكم- غير نسيان- فلا تسألوا عنها».
وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته».
ولعل مجموعة هذه الأحاديث- إلى جانب النصوص القرآنية- ترسم منهج الإسلام في المعرفة..
إن المعرفة في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة.. فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية. وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به. فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه؛ فإنه لا يصل إلى شيء أبدًا، لأنه ليس مزودًا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها.. فهو جهد ضائع. فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل، يؤدي إلى الضلال البعيد.
وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام.. وهذا هو منهج الإسلام..
ففي طوال العهد المكي لم يتنزل حكم شرعي تنفيذي- وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال- ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير الكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام.
ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه؛ فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل؛ وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص، ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن.. ذكره الدارميّ في مسنده.. وذكر عن الزهري قال: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدث فيه بالذي يعلم. وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون. وأسند عن عمار ابن ياسر- وقد سئل عن مسألة- فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا. قال. دعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناها لكم.
وقال الدراميّ: حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قومًا كانوا خيرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن:
{يسألونك عن الشهر الحرام} {ويسألونك عن المحيض} وشبهه.. ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
وقال مالك: أدركت هذا البلد (يعني المدينة) وما عندهم علم غير الكتاب والسنة. فإذا نزلت نازلة، جمع الأمير لها من حضر من العلماء، فما اتفقوا عليه أنفذه. وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله- صلى الله عليه وسلم!
وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية: روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات. وكره لكم ثلاثًا: قيل وقال؛ وكثرة السؤال، وإضاعة المال». قال كثير من العلماء: المراد بقوله: «وكثرة السؤال»: التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعًا، وتكلفًا فيما لم ينزل، والأغلوطات، وتشقيق المولدات. وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف. ويقولون: إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها..
إنه منهج واقعي جاد. يواجه وقائع الحياة بالأحكام، المشتقة لها من أصول شريعة الله، مواجهة عملية واقعية.. مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقًا كاملًا دقيقًا..
فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع، فهو استفتاء عن فرض غير محدد. وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع. والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غيرمحدد. والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة؛ كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم.
ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله، والفتوى على هذا الأساس!.. إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ.. فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة الله؛ ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس.. أي لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه.. فما استفتاء المستفتي؟ وما فتوى المفتي؟ إنهما- كليهما- يرخصان شريعة الله، ويستهتران بها شاعرين أو غير شاعرين سواء!
ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة.. إنها دراسة للتلهية! لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكانًا في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها! وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه، ليخدر مشاعر الناس بهذا الإيهام!
إن هذا الدين جد. وقد جاء ليحكم الحياة. جاء ليعبد الناسَ لله وحده، وينتزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان، فيرد الأمر كله إلى شريعة الله، لا إلى شرع أحد سواه.. وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها؛ ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها، ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها.
ولم يجىء هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار. ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة. ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكامًا فقهية في الهواء!
هذا هو جد الإسلام. وهذا هو منهج الإسلام. فمن شاء من «علماء» هذا الدين أن يتبع منهجه بهذا الجد فليطلب تحكيم شريعة الله في واقع الحياة. أو على الأقل فليسكت عن الفتوى والقذف بالأحكام في الهواء!
ويبدو- بالاستناد إلى رواية مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه ومن قول سعيد بن جبير كذلك في أسباب نزول الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم...} أن من بين ما كانوا يسألون عنه أشياء كانت في الجاهلية. ولم نقف على معين للسؤال ماذا كان. ولكن مجيء الحديث في السياق عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي بعد آية النهي عن السؤال يوحي بأن هناك اتصالًا ما.. فنكتفي بهذا لنواجه النص القرآني عن هذه العادات الجاهلية: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون}.